وهم "المستبد العادل"- لعنة تاريخية أم أمل كاذب؟

عندما بادر الرئيس قيس سعيد بالاستيلاء على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع تجميد عمل البرلمان، كان الدافع الأكبر للاهتمام هو تقصي ردود أفعال الناس العاديين.
لم تفاجئني موجة الابتهاج العظيمة التي عمت أرجاء البلاد، فقد كنت على دراية تامة بالاستياء العميق الذي يكنه الشعب للطبقة السياسية المتناحرة داخل أروقة البرلمان.
إن هذه الحشود الغفيرة التي خرجت إلى الشوارع معبرة عن مساندتها لهذا التحرك، إنما تفعل ذلك بدافع عفويتها وتلقائيتها، وبساطتها وحقها الأصيل في التعبير عن استنكارها للكابوس الذي يرزحون تحته، وفي التطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا، وهم ذاتهم الجماهير التي انطلت عليها الخدعة في منعطفات تاريخية عديدة من المحيط إلى الخليج، مهللة ومرحبة بالزعماء والقادة على اختلاف مشاربهم.
كما لم أُصدم من حجم الكراهية الشرسة التي تفجرت بها وسائل التواصل الاجتماعي ضد حركة النهضة، الضحية الأولى لهذا الانقلاب. لقد نجح "التكتيك" السياسي، الذي أصبح سمة مميزة لهذا الحزب، في إضافة حقد الثوريين إلى كراهية المستأصلين – لأسباب واضحة ومفهومة-. وأضحت حركة النهضة بمثابة العجلة الخامسة للثورة المضادة، والشريك الدائم لأحزاب الفساد التي تعاقبت على المشهد السياسي، وكان الأجدر أن تسمى "فساد تونس 1 و2 و3".
وفي محاولة لتفسير هذه الفرحة العارمة، زعم بعض الديمقراطيين أنها ابتهاج لأنصار النظام القديم، بينما رأى آخرون أنها شماتة بالمنظومة الحاكمة بأكملها، وليست ترحيبًا بالانقلاب ذاته.
في حقيقة الأمر، كانت فرحة مدفوعة بأسباب متعددة، ومشاعر متباينة، اجتمعت في تلك الليلة على موقف واحد، وهو الترحيب بنهاية برلمان بغيض وحكومة متهالكة، دون الاهتمام بالآلية أو العواقب المحتملة.
لكن ربما غاب عن أذهان الديمقراطيين أخطر الأسباب، أو ربما رفض عقلهم الباطن الخوض بعمق في تفسير هذه الظاهرة المدهشة.
إن هذه الجماهير التي نزلت إلى الشوارع معبرة عن تأييدها للانقلاب بعفويتها وتلقائيتها وبساطتها وحقها المشروع في الاحتجاج على الكابوس الذي تعيشه وحقها في الأمل بغد أفضل، هي ذاتها الجماهير المخدوعة التي نزلت في كل المناسبات التاريخية من المحيط إلى الخليج لترحّب بحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين وعمر البشير وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي وعبد الفتاح السيسي ومحمد ولد عبد العزيز وغيرهم.
وعندما نحلل هذا المشهد المتكرر على مر تاريخنا الحديث، نكتشف أن وراءه كل الأسباب الموضوعية من تفقير وظلم وتجهيل واحتقار واستغلال، لكن لو تفحصنا عن كثب آمال هذه الجماهير التي سلبتها أقليات فاسدة وعنيفة – على مر التاريخ – كرامتها وبقية حقوقها لاكتشفنا تجدد وهم حضور الحل النهائي لكل مشاكلها، وهو في ذهن الأغلبية ليس منظومة ومؤسسات وقوانين، وإنما شخص طال انتظاره وأخيرا جادت به الأقدار الرحيمة اسمه "المستبد العادل".
قلة هم من يدركون أن "المستبد العادل" عبارة متناقضة لفظيًا، تمامًا كالنار الباردة والثلج الساخن، فكما لا يمكن للذكر أن يكون أنثى، يستحيل على المستبد أن يكون عادلاً. أليس الاستئثار بالسلطة المطلقة هو الظلم بعينه، وهو يحرم عددًا هائلاً من البشر من نصيبهم منها – وما يتبعها من مكانة وثروة؟ كيف يكون العادل مستبدًا وهو بممارسته للاستبداد لا يستطيع إلا أن يكون عنيفًا وظالمًا؟
ومع ذلك، ولكي نفهم ترسيخ هذا المفهوم في العقل الجمعي وقوة تأثيره حتى يومنا هذا، يجب أن نتذكر أنه مرتبط في تاريخنا بعمر بن الخطاب، قدوتنا المثلى في الحكم الرشيد، والمشكلة تكمن في أن الجمع بين المستبد العادل والفاروق هو خطأ فادح.
إن الخاصية المحورية للمستبد هي أن تفسيره للقانون هو القانون ذاته، وأحيانًا لا يحتاج إلى أي قانون على الإطلاق، فإرادته – وحتى لا نقول أهواءه ونزواته – هي القانون بأكمله.
لكن عمر بن الخطاب لم يحكم قط وفقًا لأهوائه، ولم يضع إرادته فوق إرادة المسلمين، وخاصة فوق ما يأمر به النص المقدس.
لقد أخضع ابن الخطاب نفسه لحق الآخرين في تقويمه بحد السيف إن أخطأ، وأخضع كل تصرفاته لأحكام دستور ذلك العصر، أي القرآن الكريم، ومن ثم لا مجال لوصفه بالمستبد في خلط واضح بين الحزم والعزيمة وبين الاستبداد، وبين قوة الشرعية وشرعية القوة.
من أين استقينا إذن هذا المفهوم المسموم؟
إذا كانت جذوره لدى عامة الناس مجرد سوء فهم داخل تاريخ متخيل، فإن جذوره لدى المثقفين العرب تعود إلى الفكر التنويري الغربي في القرن الثامن عشر.
قد يكون محمد عبده (1848-1905) أول من أشاع مفهومًا مترجمًا من اللغة الفرنسية (Le despote éclairé)، والترجمة الدقيقة له هي "الطاغية المستنير". وهذا المفهوم مدينون به لكاتبين فرنسيين هما "فولتير" (Voltaire) (1694-1778) و"دالمبير" (D’Alembert) (1717-1783).
ولا يجب أن ننسى أن أوروبا عاشت لقرون عديدة تحت وطأة استبداد متجسد في الملكية المطلقة. وهكذا خرجت – في أوج المواجهة معها من أدمغة مفكرين إصلاحيين – هذه الخرافة عن الطاغية المستنير، وفيها قبول ضمني بأن تحافظ الملكية المطلقة على صلاحياتها، ولكن المطلوب منها أن تتفضل على الشعب المسكين بشيء من حسن السيرة وفتات من العدل.
وجاءت الثورات الأوروبية والأمريكية متجاوزة هذه الإستراتيجية الجبانة والفاشلة لتفرض إلغاء الاستبداد لا تلطيفه، وذلك بخلق الأنظمة الديمقراطية. وجرب أن تقول لغربي اليوم إن تجاوز أزمة الديمقراطية في الغرب – وهي أزمة عميقة ومتفاقمة – بالعودة للطاغية المستنير، وسينفجر ضاحكًا في وجهك.
لكن أغلب شعوبنا – أمام خيبات الأمل بالديمقراطية في لبنان والعراق وتونس – على أهبة الاستعداد للقبول بالعودة لخرافة المستبد العادل، والدليل كثرة المتحسرين على عهود الاستبداد التي كانت تضمن على الأقل الاستقرار ولو في ظل الفساد والاستعباد.
ولا يطول الزمان بكل المخدوعين ليكتشفوا ما أثبتته – على الدوام – تجارب تاريخنا القديم والمعاصر أن "المنقذ" بعد تمكنه يزداد كل يوم استبدادًا وينقص عدله المأمول لينتهي طاغية فاسدًا مجرمًا يكلف شعبه ما كلفه الطاغية الذي سبقه والذي سيخلفه، والجماهير دومًا على استعداد للتهليل لكل ممثل جديد يبرز من المجهول للعب دور جمع كل الكوميديا وكل التراجيديا.
هل ثمة أمل في أن يتوقف المسلسل يومًا؟
لقد طوى الغرب صفحة مفهوم الطاغية المستنير، وانتقل المجتمع إلى دولة القانون والمؤسسات، ولم يكن ذلك بسبب تغير نوعية الإنسان الغربي الذي ارتقى ثقافيًا للمستوى الذي لم يصله بعد الإنسان العربي. وإن انتقال الغرب من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية – بجانب نضال المجتمعات وثوراتها العديدة – هو الذي مكن الديمقراطية من الظهور والبقاء.
ومعنى هذا أن الديمقراطيات التي نبنيها ما زالت هشة، لأن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي نبني عليها مؤسساتنا العصرية لا تزال قاعدة نظام الحضارة الزراعية بفهمها المتخلف للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي علاقة الراعي والرعية، وكل المطلوب من الراعي ألا يسرف على غنمه وألا يتمرد القطيع على ولي الأمر.
ومن حسن الطالع أن التطور المتسارع لمجتمعاتنا والطفرة التكنولوجية المعاصرة تجعل هذه المجتمعات تنخرط هي الأخرى في طريق يدير الظهر لوهم المستبد العادل حتى وإن كان لا يزال طاغيا عند أفقر قطاعات الشعب وأقلها وعيًا وأكثرها عرضة للتجهيل والتضليل.
وهذا يعني أن كل هؤلاء الطامحين للدور الأزلي يسبحون ضد تيار تاريخي عاتٍ، وأنهم سيتعبون وسيغرقون قبل أن يتعب التيار ويسير في الاتجاه المعاكس الذي يريدونه للتاريخ.
إن مهمة الأجيال الجديدة التي تذوقت طعم الحرية هي أن تتصدى بكل قوة لهؤلاء المتخلفين الخطيرين حتى ننتقل نحن العرب أيضًا من شعوب رعايا إلى شعوب مواطنين ومن دول مستبدة تمتلك شعوبًا مستعبدة إلى شعوب حرة تمتلك دول مؤسسات وقانون. ويومها ستقول هذه الأجيال لا، لقد انتهينا من "لعنة" إيليا أبو ماضي:
نرجو الخلاص بغاشم من غاشم لا ينقذ النخاس من نخاس
ولا بد لليل أن ينجلي.